الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاءوا به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأهدر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر، على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة رضى الله عنه وعنهم.وقيل: كان حصورا لا يأتي النساء، ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة.وقيل: كان له ابنان، يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنيه: «لهما أشبه به من الغراب بالغراب». وقوله في الحديث: والله ما كشف كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.الرابعة: قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الافك. إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله: وجهل الغير، قاله عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة، كما قال الله تعالى.وفي مصحف حفصة: {عصبة أربعة}.الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب: {كبره} بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لان العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا، أي أكبره. روى عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمى: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره، رواه عنها مسروق.وروى عنها أنه عبد الله بن أبى، وهو الصحيح، وقاله ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله: وقد روى أنه لما أنشدها: حصان رزان، قالت له: لست كذلك، تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه، والله أعلم.وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الافك أم لا، وهل جلد الحد أم لا، فالله أعلم أي ذلك كان: وهى المسألة: السادسة: فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلد في الافك رجلين وامرأة: مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبى ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في الاخبار أنه ضرب ابن أبى وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الافك، على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الافك لان الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} أي على صدق قولهم: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً}. والقول الثاني- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد أهل الافك عبد الله بن أبى ومسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وفي ذلك قال شاعر من المسلمين: . قلت: المشهور من الاخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبى. روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري قام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.وفي كتاب الطحاوي: {ثمانين ثمانين}. قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبد الله بن أبى لان الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ}. وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحدود: «إنها كفارة لمن أقيمت عليه»، كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبى استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه، كما في صحيح مسلم. والله أعلم.السابعة: قوله تعالى: {لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الافك ما قالوا. قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، قاله المهدوي. و{لَوْ لا} بمعنى هلا.وقيل: المعنى أنه كان ينبغى أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الامر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد.وروى أن هذا النظر السديد وقع من أبى أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل! فقال نعم! وذلك الكذب! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك! قالت: لا والله! قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.الثامنة: قوله تعالى: {بِأَنْفُسِهِمْ} قال النحاس: معنى {بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الايمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.التاسعة: قوله تعالى: {لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} هذا توبيخ لأهل الافك. و{لَوْ لا} بمعنى هلا، أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول، وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ} أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الامر كاذب لا في علم الله تعالى، وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة. قلت: ومما يقوى هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إن الوحى قد انقطع وإنما نأخذكم ألان بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل.الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {فَضْلُ} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب {لَوْ لا} لأنه قد ذكر مثله بعد، قال الله عز وجل: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة: الأخذ في الحديث، وهو الذي وقع عليه العتاب، يقال: أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف، من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبى وابن مسعود: {إذ تتلقونه} من التلقي، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة: بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام، وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير: بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء، وهذه قراءة قلقة، لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالادغام في قراءة من قرأ: {فلا تناجوا. ولا تنابزوا} لان دونه الالف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما- وهم أعلم الناس بهذا الامر- {إذ تلقونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه، فجاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير.وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع، يقال: جاءت الإبل تلق، أي تسرع. قال: يقال: رجل زلق وزملق، مثال هدبد، وزمالق وزملق بتشديد الميم وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، قال الراجز: والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات، فهو مشترك.الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ} مبالغة وإلزام وتأكيد. الضمير في {تَحْسَبُونَهُ} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و{هَيِّناً} أي سيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ} في الوزر {عَظِيمٌ}. وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» أي بالنسبة إليكم.الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و{أَنْ} مفعول من أجله، بتقدير: كراهية أن، ونحوه.الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} توقيف وتوكيد، كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا.السادسة عشرة: قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} يعني في عائشة، لان مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما في ذلك من أذائه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عرضه واهلة، وذلك كفر من فاعله.السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل، لان الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في عائشة لان ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام: «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه». ولو كان سلب الايمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» حقيقة. قلنا: ليس كما زعمتم، فإن أهل الافك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهى سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب.الثامنة عشر- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ} أي تفشو، يقال: شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه، أي ظهر وتفرق. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح.وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيئ. {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا} أي الحد.وفي الآخرة عذاب النار، أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة.وقال الطبري: معناه إن مات مصرا غير تائب.التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شي. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} روى من حديث أبى الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها برئ يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار- ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى:- {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية».العشرون: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} يعني مسالكه ومذاهبه، المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة، هو ما بين القدمين. والخطوة بالفتح المصدر، يقال: خطوت خطوة، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان، ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة.وقرأ الجمهور {خُطُواتِ} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور: {ما زَكى} بتخفيف الكاف، أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا.وقيل: {ما زَكى} أي ما صلح، يقال: زكا يزكو زكاء، أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة، أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم.وقال الكسائي: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} معترض، وقوله: {ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} جواب لقوله أولا وثانيا: {وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبى بكر بن أبى قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف.وقيل: اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الافك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومر على يمينه، فنزلت الآية.وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الافك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح، غير أن الآية تتناول الامة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.وروى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}. قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إنى لاحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.الثانية والعشرون: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال، لان الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والايمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].الثالثة والعشرون: من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه، كما تقدم في المائدة. وراي الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك أنها جرحة في شهادته، ذكره الباجى في المنتقى.الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ} {وَلا يَأْتَلِ} معناه يحلف، وزنها يفتعل، من الالية وهى اليمين، ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} وقد تقدم في البقرة. وقالت فرقة: معناه يقصر، من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} [آل عمران: 118].الخامسة والعشرون: قوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: «من لا يرحم لا يرحم».السادسة والعشرون- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً} [الأحزاب: 47]. وقد قال تعالى في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]، فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]. وقوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ} [الشورى: 19].وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} [الضحى: 5]، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.السابعة والعشرون- قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتُوا} أي ألا يؤتوا، فحذف {لا}، كقول القائل: ذكره الزجاج. وعلى قول أبى عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا}. «وليعفو» من عفا الربع أي درس، فهو محو الذنب كما يعفو أثر الربع.
|